السبت، ٩ يونيو ٢٠٠٧

الناس وسواس المحبة الساكنة روحى



الناس.. { تسوى ايه الدنيا من غيرهم وغير محبتهم}، كانوا ومازالوا رهان قلبى على جدوى الحياة وقيمتها، منذ أن هدرت روحى بالغناء ومنذ ان كنت صغيرة اتلمس دربى فى قلوب الناس اينما ماكانوا واينما ماحلوا فمكانتهم ظلت فى قلبى تحرضنى على {معافرة} المستحيل، حتى فى اقسى الدروب، فى اقصى صرامة الزمن وهو يعجن روحى ويخلخلها بعذابات الوجود وأسئلة القيامة. حتى حين افقد الأمل بان الناس ماعادوا ناسا، وان النسيان طال انسانيتهم وبقيت فى كهف بعيد انحت صخره و{اردمه} على قلبى ليكف عن محبة الناس، انه الوهم الكبير ان أكون بلا وطن وبلا هوية فالناس وطنى الحقيقى وصلصال كينونتى.
فى ذلك اليوم الذى انشلت {ام الزرق والحمر} أمى عشة بت حامد والجلطة تعلن قسوتها والناس يعلنون محبتهم، تضامنهم ويسندون أرواحنا، فى ذلك اليوم وكل شىء ينهار، انهيار لاتعادله الا المحبة التى اجهشت بها الجموع التى غسلتنا، وغسلتنى على وجه التحديد، هل كان ينبغى ان يحدث ماحدث لاعز واحب خلق الله حتى تتوازن الحياة فى داخلى؟
زحفت زحفا الى مطار فيينا الدولى، لا كما كنت أحلق كعصفورة فرهد على جناحيها اخضرار المدى حين اسافر الى السودان. {صرة} قلبى مدفونة هناك ومن هناك مدت جزورها الى امكنة بعيدة، الى كل أمكنة الناس، الناس هم بلدى، فى السودان او فى فيينا وفى أى مكان آخر بالامكان أن أجد وطنى فى الناس {القاسمين معايا} الفكرة والهم وحب الانسانية. رافقتنى فريينا { واحدة من الناس المدت فينى جزر روحها}، طيلة الطريق حدثتنى عن الطاقة، حديثى وحوارى المفضل معها حين نلتقى، إنه الوقت الذى ينبغى التماسك فيه، زمن تحويل الطاقات {هو لسه فى طاقة}، كنت افكر و{افتت} فى قلبى كيلا يخذلنى بان أحول طاقة الحزن وأفجرها الى طاقات من القوة والتماسك وان التقى أمى كما كنت التقيها، بالدموع ووجهى يشرق بفرحة وجودها. ودعدتنى وهى تحضننى وتهدج بالدعاء الطيب لأمى وترطب على فزع روحى وهى تقول لى { لاتنسى باننا نحبك ونحب هذه المرأة التى أنجبتك}. وكان المسيح عليه السلام مخضر القلب وكانت فيريينا ركيزتى فى تلك اللحظات وكنت {حزنانة وواعية} لكتابة كنت قد بدأتها قبل ان تهاجمنى صقور الحزن، كتابة عن {الحيطة او جدران الذات} وكيف ان افعال الحب النبيلة تخترق كل الحيط وكل جدران الذات فى صلفها ولفظها للآخر.
اخذت مكانى فى الطائرة التركية، حاولت النوم ولم استطيع رغم الإجهاد وضنى النفس وهى تكابد {هلوساتها}، حاولت اكتب ولم استطيع وحبر روحى يقطر بالحزن، فتحت نوافذى على محبة الناس التى سندتنى وكاتبتنى قبل سفرى لملاقاة أمى، كل الناس اللذين التقيتهم، كل الناس الذين كاتبونى وهم يدعون لأمى بالشفاء، لاول مرة أحس بانى لا اقدر على هذه المحبة، انها فوق طاقتى وفوق تصورى وامام سيلها تتكسر كل المصدات وتغسل الذات حزنها، غضبها، مراراتها وتنهض مغسولة بضىء محبة الناس ورزاز عيونهم يراشقنى بشهقة الحياة وهى لن تموت فىّ.
الثالثة والنصف صباح الاحد السادس من مايو حطت الطائرة وروحى مازالت تهوى وهى تحاول النهوض، كنت غريبة، غريبة حتى عن نفسى، كل شىء يلفظنى ومشاعر متناقضة تقرع طبولها داخلى، فكيف سأخرج وأمى لن تكون شاهقة كفجر جميل؟ وكيف لا انظر فى عينيها لحظة اللقاء الأول، جزر تتعارك أمواجها وتهدر بالحنان، بالصرامة، بالحزن، بالانكسار والعناد، بالامل والهزيمة.... إنها عيون أمى... واحتى التى دونها يفصدنى الوجع.
وحضنها حقولى الآمنة والحنان الذى {يغربل ضريسة} الزمن من عمرى.
وقفت نجوى شقيقتى كنجمة تهوى من الحزن ، تعانقنا { ماعاوزة أبكى} قلتها ودموعى تغسل وجهى. أبتهال تنتظرنى ايضا وتمسح دموعى وتمازحنى { الدموع دى ومسحناها نعمل شنو للنخرة الحمرت دى}، تنتزع منى ضحكة لاتشبه الضحك فى شىء إبتهال ابنة أمى من أبى، بعض من نقع حنان أمنا الذى ارضعتنا.
عند الرابعة صباحا وقفت امام المستشفى فى نمرة {اتنين} واحاول ان استجمع شىء من طاقتى، فى الطريق حكن لى عن حالها وانها استقرت الآن ولكن..... حين جرجرت اقدام روحى لباب غرفتها وأمامى جسد نحيل لايشبها جسدها فى شىء، انبوبة التغذية وعينيها المسبلة، وجهها الملتفت ناحية الشمال، لا هذه ليست أمى وبدأت النحيب، اين قوتى، اين صمودى وأين .... ,اين..... خرجت بنت خالتى من الغرفة وهى تحتضننى وتغالب دموعها وتقول لى { لو عاوزة تبكى وتنهارى ارجعى طوالى ماعشان كده انتى جاية}، سندت جسدى الخائر وروحى المتهالكة على اقرب حائط، مرة أخرى _الحيطة_ تسندنى ولكنها تقف عارضا بينى وبين أمى، لا ادرى كم من الزمن الداخلى مرّ كاعصار وكم من شجن وأسى وطفولة وحكايات، ياربى ارفق بى وقوينى... يا اله السموات والارض، يابركة المحبة التى سندتنى حين كنت بعيدة عنها، غمرتنى الوجوه وكلمات الحب الحقيقى، حب الناس لانفض جناح قلبى وأولع نار محبتهم التى لا تنطفىء ولن تخمد وكنت احتاجها فى تلك اللحظة وانا اواجه مصيرى اما ان اهزم الحزن واخطو خطوتى تجاه سريرها او استسلم لهزيمتى وكانت المحبة اقوى، اقوى من كل الهزائم والانكسارات ومسحت دموعى و {قرصت ورك قلبى} وكنت افعل كلما رق نبضه حين ينبغى ان يقسو النبض على دمه.
آمنت بمحبة الناس وهى تقوينى فى تلك اللحظة وضبطت كل عصبى على ايقاع كمنجاتهم واقتربت منها، قبلت جبينها واحتضنت يدها، فتحت عينيها ومحبة الناس تشرق فى عيونى بدل الدموع وحدثتها حديث الروح، وكأنها فى حلم وكأنى اقاوم عواصف الدنيا كلها فى لحظات التجلى والالهام وسرت الحياة فى دمى وانا انزع منها ابتسامة و{اجضمها بحنان كما كنت افعل معها حين اشاكسها فى حالات انها أختى وليست أمى... لقد عرفتنى وحست بوجودى، انها طاقة الحب، طاقة محبة الناس التى احاطونى وأمى بها. حاولت ان تفتح فمها المطبق على كثير من الحكايات الأسية ولكنها لم تستطيع واقتربت أكثر منها ولامست وجهى وشعرى، اى قوة إكتبستها وهى لا تنهض ولا تحتضننى. كيف نظرت لعينيها وهى تحس العجز التام كيف؟
حكيت لها عن كل الذين سألوا عنها وعن كل النساء والبنيات اللآتى كاتبننى وسندننى وهن يهتفن باسمها فهى نور الامهات العظيمات، قلت لها كل الدعوات التى طيبت الخاطر والقلب وانها لابد ان تنهض وان تفك اسر هذا الكون والعصافير الحبيسة منذ ان صمتت عن الكلام. صبيحة ذلك اليوم تجمهر عدد من الناس الجميلين، صغارا وكبارا، نساء ورجالا يسألون عنها بلهفة وحنية وبقيت بعض الوقت تحت شجرة النيم وقلبى يتنحى طريقه الى حكاية بائعات الشاى والقهوة واقتسمت معهن بعض الحكايات بعضها صامتا قلناه بعيوننا ومشاعرنا الخاصة جدا التى لايفهمها الا من تيمم صوب الفضاء وغنى لثورة يصنعها فقط هؤلاء الفقراء.
ليس سهلا ان اذكر كل الناس، فقد كانوا طيورا محلقة فى سماوات المحبة، ناس متعددة فكيف اترسم قوز قزح على سماء الصهد فى قلب الخرطوم لولاهم. نسوة الديم الطيبات أكدن من جديد لماذا اصرت أمى ان تبقى وسطهن وان البيت الضيق يتسع بمحبتهن، ونساء كوستى اللآتى تكبدن مشاق السفر ومنحننا بعض من حنانها.
سأحكى بعض الحكايات عصارة لمحبة الناس، ناس يهدونك مزاميرهم دون ان يطالبونك باغنية، يتركون الحانهم ويذهبون ولكن تبقى مزاميرهم لحنا للوفاء.

حكاية أولى:

ذكرت لى أسماء بعض الناس التى زرات أمى، احداهن شابة صغيرة من {امبدة كرور}، زارتها وهى تدعو لها، سألتها أختى إن كانت تعرف الحاجة او احدانا، فهى بنية صغيرة فى منتصف العشرينات، قالت انها إبنتها وهى أمها التى ستعوضها فقدها حين ماتت أمها وتركتها وحيدة {تجابد} لحن الحياة، اعلنت نفسها بنتا لها وأختا لنا منذ رسالتى لأمى التى نشرتها فى سودانايل، جاءت من أمبده معرضة نفسها للعطش وقد يكون للجوع والسحائى وندهت شجو المحبة، كانت هذه الطاقة التى سرت فى يد أمى وهى ترفعها لتلامس وجهى وتعبث بضفائرى التى مشطتها بدهن أمومتها.

حكاية ثاني

قبل سفرى جاءتنى رسالة الكترونية من المحامى الاستاذ أ. الطريفى داعيا لامى بالعافية وانه يرغب فى زيارتها، زارها وهو لايعرف ايأ منا معرفة شخصية وسأل عنى وعن الاسماء التى وردت فى رسالتى لها ووعد بمعادوة الزيارة، قبل سفرى بيوم التقيته وحكى لى عن رسالتى لأمى والتى طبعها وقرأها اهل بيته وكان كلما يعود الىالبيت نهاية اليوم تتقاطر الاسئلة {أها حاجة عشة بقت كيف؟} يسألون عنها وكأنهم رضعوا حليب انسانها وكأنهم لعبوا يوما تحت قدميها وكأنها هدهدت صغارهم ورتبت فيهم بعض من ربكة الحياة. انها المحبة الحقيقية من بشر حقيقى يلامسون الوجدان ويبقون احدى ربابات عشقى للحياة.

حكاية ليست أخيرة:
فى العام الفائت وأثناء زيارتى للسودان وانا اترحل من مكان لمكان عن طريق الامجاد وأنا أعلن بلادتى فى الجغرافيا والوصف لسائقها، بجلالة الله أوصلنى وقابلتنى أمى أمام الباب وهى ترحب {يمة انتى جيتى} وانفجر صاحب الامجاد
{ ياحاجة فى زول يروح من بيتهم.... ماتعمل لى فيها عايشة برة والقصص العجيبة دى.... و..... } قالت له أمى {ياولدى انزل اشرب موية وبرد ريقك وبالمرة اكل معانا ملاح نعيمية} وقد كان.
فى يومى الثالث وأثناء زيارتى لأمى ترحلت من نمرة 2 الى الديم وكانت صدفة حين قال صاحب الامجاد الذى لم اتعرف عليه لحظتها { الحمدلله المرة دى ما حاتروحى لانى بعرف بيتكم} وسألنى ان كان هناك ملاح نعيمية
وحكيت له عن الايادى التى صنعتها حينذاك ساكنة الآن، حزن حقيقى حسيته وهو يصر على رؤيتها قبل ان يوصلنى لمشوارى وظل يزورها يوميا اثناء مروره ورفض أن يأخذ أجرة الرحلة وأنا اعلم مكابدة الحياة وشظف العيش، ذات الحكاية حدثت مع شاب فى مقتبل العمر قابلناه ونحن نبحث عن { شقة} لتبقى فيها أمنا قبل ان تغادر الى العلاج فى القاهرة، حكينا له ظروفنا وضرورة أيجاد سكن معقول لنبعدها عن {زحمة الحبان} وبدى عليه التأثر وسألنا { ووين بيت المريضة، قلنا له جنب جامع سيف وجاء سؤاله مؤكدا محبة أمنا للناس، ووين لبيت ناس حاجة عشة؟} وحين عرف بانها المعنية حول طاقة الحزن الذى بدا على وجهه لبحث مضنى ولم يرتاح حتى وجد ما صبونا له ورفض أن يأخذ عمولته كوسيط، النفوس الطيبة تعرف بعضها يا أبن أمى.

دموع حاجة حواء{ شرقت } روحى

تأتى حاجة حواء مرتين فى الشهر للغسيل، تجلس أمى جوارها وتساعدها ، تجهز الفطور وتتناوله معها، تهبها بعض الهدايا بمحبة، حكت جارتنا لى ان حاجة حواء طلبت من أمى ان {تسلفها توب} لحضور مناسبة فماكانت من أمى الا ان أخرجت لها ماتملك لتختار ماتريد. انفجرت حاجة حواء حين رأتنى وبكت بكاء حارا واستجدتنى ان أذهب بها الى أمى وكان من الصعب اقناع ادراة المستشفى بالسماح بالزيارة بعد ان تم منعها بأمر الطبيب. طاقة الحب العظيمة منحتنى لها حاجة حواء وتيقنت ان الكلمة الطيبة تمنح ثمارها والفعل الطيب يرمى ظله للبعيد.
فى مطار الخرطوم وانا فى طريق عودتى الى فيينا ودموعى تنهمر وصورة أمى لاتفارقنى خاصة وانها مازالت غير قادرة على الحركة والكلام وان انبوب الغذاء مثبت على انفها ونصف وجهها بالكاد رؤيته وقد تغطى باللاصقات، كنت بين نارين نار ان اترك أمى فى هذه الحالة ونار صغارى واصل ومرافىء. قبالتى جلست إمراة مع طفليها فى طريقهما الى الدمام بالسعودية وسألتنى، انها اللحظات التى تنكسر فيها كل الحواجز وتهب ريح الانسان عطرة، حكيت لها وحاولت وقد نجحت ان تغرس بعض الطمأنينة فى قلبى وعانقتنى كأختى وهى تودعنى وتقول لى { شدى حيلك قلبى معاك} وفى عينيها حبست دمعتين.

ومن هنا وبأسم حليب أمى ونور عينيها أعلن....
إن محبة الناس الوسواس الذى يغوص فى الروح
الناس صندل النفس حين يقهرها الزمن
ومحبة الناس هى واحتى الخاصة جدا والتى لن اكف ان أمنحها عصارة عمرى لتبقى مزهرة
محبتى هى ما املك لكل من سندنا فى هذا الظرف القاسى
الى كل من هاتفنا، من كل انحاء الدنيا العريضة، حيث لم ينقطع التواصل بين الدقيقة وأختها
الى كل من زارنا ومنحنا ملح الانسانية ونشيدها
الى كل اللذين لم التقيهم/ن وعرفتهم إبان هذه الايام الحزينة...
والى اللذين افتقدناهم وغابوا او غيبتهم ظروفهم عنا... كونوا على يقين بان فقدكم انهمر نهرا من الضياء حولنا

ويبقى الناس ملامحى التى اجوب بها العالم الذى أحلم
وتبقى محبتهم سماد للروح لتفرهد
وتقبلوا منى بعضا من محبتكم/ن
محبتكم هى ما املك
هى شجر الله الذى يظلننى وينتح فى عمرى نداه
وهى نهرى للامهات العظيمات
وكل هويتى


فيينا... فى يوم اتسعت فيه إبرة الروح قليلا

هناك تعليق واحد:

adil osman يقول...

هذا نثر جميل وصعب وسهل وعميق وحميم ومؤلم فى نفس الوقت. كل مرة تدهشنا اشراقة بالكتابة عن الحياة فى تمظهراتها المتنوعة. بحس الانثى توغل فى الحفر عميقآ عن مكنون وجوهر انسانيتنا. وعن معنى وجودنا وعن ما يجمعنا على الرؤية العميقة والتقدمية. اتمنى دوام الصحة واضطراد التقدم. ولوالدتك خالص الدعاء والصلوات بالشفاء العاجل والكامل
عادل عثمان
المملكة المتحدة